التنمية البشريةصحة وطبكيفية

كيفية تطبيق العلاج السلوكي الجدلي مع مرضى اضطراب الشخصية الحدية

كيفية تطبيق العلاج السلوكي الجدلي مع مرضى اضطراب الشخصية الحدية

دليل عملي للمعالجين والأفراد لفهم وتطبيق تقنيات DBT بفعالية

يعد اضطراب الشخصية الحدية تحديًا كبيرًا للمرضى والمحيطين بهم، حيث يتميز بتقلبات مزاجية حادة وصعوبات في العلاقات وسلوكيات اندفاعية. يبرز العلاج السلوكي الجدلي كواحد من أكثر الطرق العلاجية فعالية في التعامل مع هذا الاضطراب. يقدم هذا المقال دليلاً تفصيلياً وخطوات عملية لتطبيق هذا العلاج، بهدف تمكين المرضى والمعالجين من استخدام أدواته القوية لبناء حياة أكثر استقرارًا وإشباعًا. سنتناول المكونات الأساسية والمهارات الأربع الرئيسية للعلاج، مع توفير حلول عملية قابلة للتطبيق.

فهم أساسيات العلاج السلوكي الجدلي (DBT)

كيفية تطبيق العلاج السلوكي الجدلي مع مرضى اضطراب الشخصية الحديةقبل البدء في تطبيق أي تقنية، من الضروري فهم الفلسفة والهيكل الذي يقوم عليه العلاج السلوكي الجدلي. هذا الفهم يمثل حجر الزاوية لنجاح تطبيقه، حيث يساعد على استيعاب المنطق وراء كل مهارة وتمرين. العلاج ليس مجرد مجموعة من الأدوات، بل هو نهج متكامل يوازن بين قبول الذات والحاجة إلى التغيير، وهو المبدأ الجدلي الأساسي الذي يمنحه قوته الفريدة في مساعدة الأفراد الذين يعانون من ألم عاطفي شديد.

ما هو العلاج السلوكي الجدلي؟

هو نوع من العلاج النفسي المعرفي السلوكي طورته الدكتورة مارشا لينهان. يقوم على فكرة “الجدلية”، التي تعني الموازنة بين أمرين متضادين ظاهريًا وهما القبول والتغيير. يهدف العلاج إلى مساعدة الأفراد على قبول أنفسهم وواقعهم كما هو في اللحظة الحالية، وفي نفس الوقت يمنحهم الأدوات والمهارات اللازمة لإحداث تغيير إيجابي في سلوكياتهم وحياتهم. هذا التوازن الدقيق يقلل من الشعور بالضغط والحكم على الذات، ويفتح الباب أمام التعلم والنمو.

المكونات الأربعة الرئيسية للعلاج

يتألف العلاج السلوكي الجدلي المتكامل من أربعة مكونات أساسية تعمل معًا لدعم المريض من كل الجوانب. أولاً، العلاج الفردي الأسبوعي الذي يركز على المشاكل الحالية وتحليل السلوك. ثانيًا، التدريب الجماعي على المهارات، حيث يتعلم المرضى المهارات الأربع الرئيسية في بيئة داعمة. ثالثًا، التدريب الهاتفي، الذي يتيح للمريض التواصل مع المعالج بين الجلسات للحصول على دعم فوري لتطبيق المهارات. وأخيرًا، فريق الاستشارة للمعالجين، الذي يدعم المعالجين أنفسهم ويضمن تقديم أفضل رعاية ممكنة.

الوحدات الأربع لمهارات العلاج السلوكي الجدلي

تشكل المهارات العملية جوهر العلاج السلوكي الجدلي، وهي مقسمة إلى أربع وحدات رئيسية. تم تصميم كل وحدة لمعالجة جانب معين من جوانب الاضطراب العاطفي والسلوكي. إتقان هذه المهارات يمكّن الفرد من إدارة الأزمات بفعالية، وتنظيم مشاعره المتقلبة، وبناء علاقات صحية، والعيش في اللحظة الحاضرة بوعي أكبر. تعلم هذه المهارات يتطلب تدريبًا وممارسة مستمرة لتحويلها إلى استجابات تلقائية في مواجهة تحديات الحياة اليومية.

مهارات اليقظة الذهنية (Mindfulness)

تعتبر اليقظة الذهنية أساس كل المهارات الأخرى في العلاج. إنها مهارة التواجد الكامل في اللحظة الحالية دون إطلاق أحكام. تتضمن خطوات عملية مثل “الملاحظة” أي مراقبة الأفكار والمشاعر والأحاسيس الجسدية كأنها سحب في السماء. ومهارة “الوصف” أي تسمية ما تلاحظه بكلمات محايدة. وأخيرًا مهارة “المشاركة” وهي الانغماس الكامل في النشاط الحالي. الهدف هو الخروج من وضع الطيار الآلي والتحكم في تركيز انتباهك بشكل واعٍ وهادف.

مهارات تحمل الضيق (Distress Tolerance)

تهدف هذه المهارات إلى مساعدتك على البقاء على قيد الحياة في المواقف الأليمة والأزمات دون اللجوء إلى سلوكيات مدمرة. من أبرز تقنياتها طريقة TIPP لتغيير كيمياء الجسم بسرعة، وتتضمن تغيير درجة حرارة وجهك بالماء البارد، وممارسة تمرين مكثف، والتنفس ببطء، وشد العضلات وإرخائها. كما تشمل أساليب التهدئة الذاتية عبر الحواس الخمس، مثل الاستماع لموسيقى هادئة أو شم رائحة مريحة، بالإضافة إلى ممارسة القبول الجذري للواقع الذي لا يمكن تغييره.

مهارات تنظيم المشاعر (Emotion Regulation)

تساعد هذه المهارات على فهم المشاعر وتقليل التأثر بها. تبدأ الخطوات بتحديد الشعور وتسميته بدقة. ثم تأتي خطوة “التحقق من الحقائق” لتحديد ما إذا كان الشعور يتناسب مع الموقف الفعلي أم أنه ناتج عن تفسيرات قديمة. إذا كان الشعور غير مبرر، يمكن تطبيق “الفعل المعاكس”، وهو التصرف بطريقة معاكسة لما يمليه عليك هذا الشعور. على سبيل المثال، إذا شعرت بالخوف من موقف آمن، فإن الفعل المعاكس هو الاقتراب منه بثقة بدلاً من تجنبه.

مهارات الفعالية بين الشخصية (Interpersonal Effectiveness)

تركز هذه المهارات على بناء علاقات صحية والحفاظ عليها مع تحقيق أهدافك الشخصية واحترام ذاتك. تستخدم تقنيات عملية مثل أسلوب DEAR MAN لطلب شيء ما أو رفض طلب، حيث تشرح الموقف، وتعبر عن مشاعرك، وتطلب ما تريد بوضوح، وتعزز طلبك، مع الحفاظ على هدوئك وثقتك. وللحفاظ على العلاقات، يتم استخدام مهارات GIVE التي تتضمن أن تكون لطيفًا، وتظهر الاهتمام، وتتحقق من صحة مشاعر الآخر، وتستخدم أسلوبًا سهلاً ومريحًا في التعامل.

خطوات عملية لتطبيق العلاج السلوكي الجدلي

إن الانتقال من فهم المهارات إلى تطبيقها الفعلي يتطلب نهجًا منظمًا وخطوات عملية واضحة. هذا الجزء من المقال يقدم خريطة طريق للمعالجين والمرضى على حد سواء لبدء رحلة العلاج. التطبيق الناجح يعتمد على بناء علاقة علاجية قوية، والالتزام بالتدريب المنهجي، واستخدام أدوات المتابعة لتحليل التقدم وتحديد نقاط الضعف، وصولاً إلى تعميم المهارات لتصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة الفرد اليومية.

الخطوة الأولى: التقييم وبناء التحالف العلاجي

تبدأ الرحلة بجلسات تقييم شاملة لفهم طبيعة المشكلات وتحديد الأهداف العلاجية. الأهم في هذه المرحلة هو بناء تحالف علاجي قائم على الثقة والتحقق. يجب أن يشعر المريض بأنه مفهوم ومقبول دون شروط. يقوم المعالج بالتحقق من صحة مشاعر المريض وتجاربه المؤلمة، مما يخلق بيئة آمنة تشجع على الانفتاح والالتزام بالعلاج. يتم الاتفاق على أهداف واضحة، مع التركيز أولاً على السلوكيات التي تهدد الحياة ثم السلوكيات التي تعيق العلاج.

الخطوة الثانية: تعليم المهارات بشكل منهجي

بعد بناء الأساس، يبدأ التعليم المنهجي للمهارات الأربع. غالبًا ما يتم ذلك في شكل مجموعات تدريب أسبوعية، حيث يتم شرح كل مهارة بالتفصيل مع تقديم أمثلة وتمارين عملية. يُطلب من المشاركين تطبيق هذه المهارات كواجب منزلي خلال الأسبوع. يلعب التكرار والممارسة دورًا حاسمًا في ترسيخ المهارات. في الجلسات الفردية، يساعد المعالج المريض على ربط هذه المهارات بمشكلاته الشخصية وتحدياته اليومية، مما يجعل التعلم أكثر صلة وفعالية.

الخطوة الثالثة: تحليل السلوكيات المستهدفة

لتحقيق تغيير حقيقي، من الضروري فهم الأسباب الجذرية للسلوكيات الإشكالية. يتم ذلك باستخدام أداة قوية تسمى “بطاقات اليوميات” حيث يسجل المريض يوميًا مشاعره ونوبات غضبه وسلوكياته الاندفاعية. في الجلسة، يتم استخدام هذه البطاقات لإجراء “تحليل للسلسلة السلوكية”. يتم تفكيك حدث معين خطوة بخطوة لتحديد المحفزات والأفكار والمشاعر التي أدت إلى السلوك المشكل، ومن ثم تحديد النقاط التي كان يمكن فيها استخدام إحدى مهارات العلاج لمنع حدوثه.

عناصر إضافية وحلول منطقية

لضمان نجاح العلاج وتحقيق استقرار طويل الأمد، هناك عناصر إضافية وحلول بسيطة يمكن أن تعزز من فعالية المهارات الأساسية. هذه العناصر تعمل كعوامل مساعدة تدعم الرحلة العلاجية وتوفر حلولاً للتحديات الشائعة مثل الانتكاسات أو الشعور بفقدان الأمل. إن الإلمام بهذه الجوانب يوفر رؤية أكثر شمولية ويجهز الفرد بأدوات إضافية لمواجهة صعوبات الطريق نحو حياة أفضل وأكثر توازنًا.

دور التحقق (Validation) في العلاج

التحقق هو جوهر العلاقة العلاجية في العلاج السلوكي الجدلي. إنه يعني الاعتراف بأن استجابة الشخص العاطفية منطقية ومفهومة في سياق تجاربه الحياتية، حتى لو كان سلوكه غير فعال. يمكن للمعالج والأهل تقديم التحقق من خلال الاستماع باهتمام، وتلخيص ما يسمعونه، ومحاولة فهم وجهة نظر الشخص. هذه الممارسة تقلل من الشعور بالوحدة والعزلة، وتبني الثقة، وتجعل الشخص أكثر تقبلاً لفكرة التغيير لأنه يشعر بأنه مسموع ومفهوم.

التعامل مع الانتكاسات والمقاومة

الانتكاسات هي جزء طبيعي من عملية التعافي. من المهم التعامل معها كفرص للتعلم وليس كفشل. عندما تحدث انتكاسة، يتم استخدام تحليل السلسلة السلوكية لفهم ما حدث وتحديد المهارات التي يمكن استخدامها بشكل مختلف في المرة القادمة. يجب على المعالج والمريض الحفاظ على موقف غير قضائي والتركيز على حل المشكلات. التعامل مع المقاومة يتطلب الصبر والعودة إلى أساسيات التحقق وتأكيد الأهداف المشتركة للعلاج.

Randa

كاتب ومحرر بموقع هاو منذ عام 2018.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock